اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي وعاء للفكر، وجسر للثقافات، ومدخل للفهم والتفاعل الحضاري.
وقد حظيت اللغة العربية بمكانة عظيمة، فهي لغة القرآن الكريم، لكن هذا لا يمنع المسلم أو العربي من تعلّم لغات أخرى، بل إن ذلك أصبح ضرورة في عالم يتسارع في التقدّم والانفتاح.
أولًا: البُعد الشرعي والمعرفي
رغم أن الإسلام أُنزِل بالعربية، إلا أنه دين عالمي، دعا إلى التواصل بين الشعوب والتعارف بين الأمم.
قال تعالى:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”
(الحجرات: 13)
وفي السيرة النبوية، جاء أن النبي ﷺ أمر بعض الصحابة بتعلّم لغات الأمم المجاورة، فقد روى زيد بن ثابت رضي الله عنه:
“قال لي رسول الله ﷺ: أتحسن السريانية؟ فإني أكتب إلى قوم بها، قال: فتعلمتها في سبعة عشر يومًا”
(رواه الترمذي، وصححه الألباني)
وهذا يدل على مشروعية تعلّم لغات الآخر إذا ترتب عليها مصلحة دينية أو دنيوية.
ثانيًا: الانفتاح الثقافي والتفاعل الحضاري
اللغة نافذة على ثقافة أصحابها، وتعلّم لغة جديدة يعني فهم طريقة تفكير مختلفة، والتعرّف على مفاهيم حضارية متعدّدة.
القراءة بلغة غير العربية تُوسّع الأفق، وتفتح المجال للاطلاع على علوم، وأفكار، وتجارب، لم تُترجم بعد.
وقد نبّه ابن خلدون في مقدمته إلى ذلك حين قال:
“من تعلم لغة قوم، استفاد من علومهم، وانتقل إليه كثير من معارفهم.”
(مقدمة ابن خلدون)
ثالثًا: تقوية فرص التعليم والعمل
تعلّم لغات أخرى يعزّز من فرص القبول في الجامعات العالمية، ويُسهّل فهم المواد العلمية الحديثة، خصوصًا في مجالات كالطب والهندسة والتكنولوجيا.
كما أن إتقان اللغات العالمية، كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، يفتح أبوابًا واسعة في سوق العمل، خاصة في المؤسسات الدولية أو في عالم التقنية والبرمجة.
تشير تقارير اليونسكو إلى أن الازدواجية اللغوية (bilingualism) تعزز القدرات العقلية، وتزيد من فرص التوظيف بنسبة تصل إلى 25% في بعض الأسواق العالمية.
(UNESCO. “Multilingual Education – Why Is It Important?” 2021)
رابعًا: دعم الدعوة إلى الله والتواصل مع غير المسلمين
في بلاد الغربة، أو على الإنترنت، يحتاج المسلم إلى أدوات تُمكنه من شرح دينه بلغة الآخر، دون تشويه أو تكلّف.
فاللغة هنا ليست فقط وسيلة شرح، بل جسر دعوي وأخلاقي، يقدّم الإسلام بالصورة التي تليق به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم”
(الاقتضاء: 1/525)
وقد علّق كثير من العلماء على هذا بقولهم: فإذا احتيج إلى غيرها لمصلحة، فلا حرج في ذلك.
خامسًا: تعلّم اللغة لا يعني التنازل عن الهوية
من المهم التنبيه على أن تعلّم لغة أجنبية لا يعني ذوبان الشخصية، ولا التخلّي عن العربية، بل يجب أن يُنظر إليه كأداة قوة، لا كاستبدال.
الاعتزاز بالعربية لا يتناقض مع إتقان لغات أخرى، بل هما في كثير من الأحيان متكاملان.
يقول الدكتور عبد العزيز التويجري (المدير العام السابق للإيسيسكو):
“المثقف الحقيقي هو من يُتقن لغته الأم، ويُحسن مخاطبة العالم بلغاته.”
(من لقاء حول الهوية الثقافية، 2016)
خلاصة المقال:
تعلّم اللغات الأخرى إلى جانب اللغة العربية أصبح في عصرنا ضرورة لا ترفًا، لمن أراد أن يتفاعل مع العالم، ويؤثر فيه، ويبلّغ رسالته.
وهو باب من أبواب القوة الفكرية، والمعرفية، والدعوية، إذا وُجّه توجيهًا سليمًا، وظلّ مرتبطًا بجذور أصيلة وهُوية واثقة.
المراجع:
- القرآن الكريم
- صحيح الترمذي – باب ما جاء في تعلّم لغة اليهود
- ابن خلدون، المقدمة
- ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم
- UNESCO, Multilingual Education – Why Is It Important?, 2021
- د. عبد العزيز التويجري – حوار حول الهوية الثقافية، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ISESCO)